الاثنين، 29 نوفمبر 2010

المشهد العظيم

القمة الإفريقية الأوروبية .. المشهد العظيم
لو جاءني في ستينيات / أو حتى سبعينيات / القرن العشرين ، من يقول أن قمة أوروبية وإفريقية تجتمع في طرابلس .. لتناقش تفعيل استراتيجية للتعاون المشترك فيما بينــهما .. لاتهمته بالجنون !! .. فكيف يلتقي المستعمرون وضحايا الاستعمار ؟ و أي تعاون مشترك يجمع بين الذئاب والحملان ؟!
لكن الزمان قد دار نصف دورة ليجعل اللقاء ممكنا .. بل وضرورة لا غنى عنها لأوروبا ولإفريقيا على حد سواء .. وهو اليوم حقيقة واقعة ، في حياة الشعب الليبي ، يفرح لها ، ويسعد بإستضافتها ويبذل كل ما يملك من جهد لإنجاحه ، ويرحب بإعادة تشكيل حياته في مدينة طرابلس الجميلة خلال فترة القمة على ضوء متطلباتها . ويتطلع الليبيون جميعا مع غيرهم من الأفارقة إلى أن تكون نتيجة القمة تجسيد ا لوعي أطرافها بحقائق عالمها ومتطلبات أمنهم وتقدمهم . قبل انعقاد القمة الأوروبية الإفريقية .. تاريخ طويل للعلاقة بين أوروبا وإفريقيا .. يمتد لأكثر من نصف قرن .. لا يمكن عرض مشاهده بالسرعة البطيئة .. لأنها مؤلمة ..ولا نريد في أيام الانتصارات الكبيرة أن نجتر الآلام .. ولأن ضيوف القمة من الشخصيات الأوروبية لا يتحملون بذاتهم المسؤولية عما تحملته إفريقيا من عذابات ..وإن كانوا لا يستطيعون التنصل من المسؤولية التاريخية لبلدانهم عنها .. وعلى كل حال فقد مر تاريخ العلاقة بين إفريقيا وأوروبا بمرحلتين :،
ـ مرحلة إحتلال أوروبا المباشر لإفريقيا .. وتمتد لأكثر من 500عام من أواخر القرن الخامس عشر حتى أواسط القرن العشرين ..في خلالها استنزفت القارة السمراء بعنف وشراسة ، عن طريق مقايضة ظالمة للذهب واليد العاملة ومنتجات المواد الأولية .. برواكد الصناعة الأوروبية ونفايات مصانعها . ـ مرحلة التبعية المباشرة .. وفيها استمرت السيطرة الأوربية على إفريقيا رغم حصولها على الاستقلال السياسي ، واستمر نزيف الموارد عبر اتفاقات ثنائية تكرس التبعية الإقتصادية ، وآليات للتجارة الدولية تعمل فى غير صالح الدول النامية , وقروض تمول تنمية عقيمة ، لا تلد إلا أضعاف حجمها من الفوائد . .!! وفى هذه المرحلة وصلت ديون المستعمرات الإفريقية السابقة الى 380 مليار دولار ، واحتلت 29 دولة إفريقية مكانا دائما فى قوائم الدول الأشد فقراً في العالم وإن أكبر الحقائق خلف هذا المشهد العظيم للقمة الأوربية الإفريقية اليوم التي تنعقد في طرابلس .. هو أن واقع إفريقيا اليوم بفقرها وأمراضها وديونها وتخلفها وتمزقها وصراعاتها هو ناتج فعل أوروبا بالأمس .. لكن عالم اليوم ليس عالم الأمس ، وأوروبا اليوم ليست أوروبا الأمس
وإفريقيا اليوم ليست إفريقيا الأمس :
ـ عالم اليوم ليس عالم الأمس.. فيه يرتبط مصير البشرية بعضها ببعض بصورة لم يسبق لها مثيل .. كل دولة فيه مجرد " وصلة " في كوخ الكتروني معقد التركيب .. و كل جزء فيه يؤثر في الآخر ويتأثر به . وكل قضاياه.. من الأمن والسلام والبيئة والإرهاب والأمراض والفساد ..كلها ذات طابع عالمي . ولعل هذا الإحساس بوحدة المصير هو الذي دفع قادة العالم في الجمعية العامة إلى تبنى أهدافا إنمائية للألفية .. تتصدى للفقر والجهل والتمييز بين الرجال والنساء والأمراض ومخاطر البيئة وتطالب بقيام شراكة عالمية من اجل مستقبل أفضل
ـ وأوربا اليوم ليست أوروبا الأمس .. فقد تراجعت قوتها بعد انتحارها المجنون في الحربين العالميتين ..وكابدت ضغوط التبعية للقطبين في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وتتحول الآن إلى اتحاد يحاول أن يحجز لها مكانا بين أقطاب الغد، وسط منافسة ضارية مع قوى جديدة صاعدة في الصين واليابان والهند على الأسواق والموارد والطاقة . ـ وإفريقيا اليوم / أيضا / ليست إفريقيا الأمس .. إفريقيا اليوم هي الحدود الجديدة لعالم الاستثمارات ، هي الموارد والثروات الهائلة .هي مستقبل الطاقة والغذاء في العالم في القرن الواحد والعشرين .. هي الكيان الموحد الذي يستظهر كنوزها ويسخرها لتحقيق حرية وكرامة الإفريقيين وفى أن تلعب دورا تستحقه فى تقرير مصير العالم .
هكذا تهيأت الظروف العالمية والأوروبية والإفريقية لأن يتحول مستعمروا لأمس إلى شركاء اليوم ..وهكذا أصبح للشراكة الأوربية الإفريقية تاريخها الخاص
القمة التي تنعقد الآن في طرابلس .. هي النسخة الثالثة من للقمة الأوروبية الإفريقية .. جاءت نسختها الأولى بمبادرة الرئيس الجزائري، واستضافتها مصر لأسباب أمنية في عام 2000 ، وتأخرت نسختها الثانية حتى عقدت عام 2007 في لشبونة في البرتغال .. وفى الواقع فإن القمتين السابقتين يمثلان المقدمات الضرورية لقمة طرابلس ومع أنني لا أعرف بالتحديد مالذي يجعل للرقم " ثلاثة " فى حياتنا معنى الحركة والإنطلاق .. لكنني أظن أن أي حركة هادفة لابد أن تسبق بحركتين الحركة الأولى" للتهيئة " , والحركة الثانية " للاستعداد "
والحركة الثالثة " للانطلاق ".. وهذا في الواقع ماجرى في القمتين السابقتين .
o في القاهرة .. كانت التهيئة .. فيها أعلن المشاركون من الأوربيين والأفارقة عن الرغبة المشتركة في تطوير العلاقات بينهما إلى مستوى يتواكب مع ظروف ومعطيات القرن الواحد والعشرين ..والعمل على الارتقاء بها إلى شراكة استراتيجية ..تقوم على أساس روح المساواة ، والاحترام ، والتحالف ، والتعاون ..وأعلنوا التزامهم بتهيئة بيئة فعالة لتعزيز الحوار بينهما . في القاهرة أيضا تم تحديد مجالات العمل المشترك بصورة عامة في التعاون والتكامل الإقليمي ، وإندماج إفريقيا في الاقتصاد العالمي ، وتعزيز التجارة وتشجيع الاستثمار المباشر وتشجيع القطاع الخاص ، وإنتظام المساعدات الإنمائية والتخفيف من عبء الديون من خلق بيئة مواتية للتنمية المستدامة ، وكذلك حقوق الإنسان ، ومكافحة التمييز ضد المرأة ، وتسوية النزاعات ، وقضايا الإرهاب ، ومقاومة إنتشار أسلحة الدمار الشامل .
وسوف يلاحظ أن برنامج الشراكة في نسخته الأولى لم يتجاوز إعلان النوايا ، ولم يتضمن برنامجا محددا للعمل المشترك .. فضلا عن أن الإعلان برمته يميل لصالح أوروبا ، ويهتم بصورة خاصة بتهيئة إفريقيا للإندماج في النظام الرأسمالي العالمي ، وتمجيد القطاع الخاص ، وآليا ت السوق .. وهو برنامج يعتمد سياسة المصرف الدولي ومنظمة الجات ، ولا يعبأ بخصوصيات الدول الإفريقية .. ومع ذلك فإنها البداية التى قدمت دروسها لمستقبل الأيام .
فى لشبونة .. بلغت مسيرة القمة محطتها الثانية . .فبها استكملت إمكانات الاستعداد للإنطلاق .. وبها ينضج مفهوم الشراكة بالتأكيد على أن "أوروبا بحاجة الى إفريقيا بقدر حاجة إفريقيا الى أوروبا " وأن " جميع أطراف الشراكة أنــداد متساوون " , و إن العلاقة بين الأنداد في الفضاءين تنتــــقل من إنتظــــار المنح والقروض إلى " المواجهة المشتركة للتحديات , والاستثمار المشترك للفرص المتاحة " ، وأن "احترام الهويات الوطنية والأولويات الوطنية " من أهم الأسس التي تقوم عليها الشراكة الاستراتيجية المحقة .
جاءت موضوعات القمة الثانية أكثر تحديداً ..فركزت على قضايا السلم والأمن ، والديمقراطية وحقوق الإنسان ، والتجارة والتنمية ، والبيئة , والطاقة ، والهجرة ، والتشغيل ، الأهم من هذا كله أنها تضمنت خطة وبرنامجا للعمل المشترك يتضمن 75 مشروعا ، عرفت باسم خطة عمل 2008 - 2010
وسوف نلاحظ أن الخطة لم تنفذ ، وأن حجم المعونات المقدمة للقارة في عام 2009 قد انخفضت إلى أدنى مستوى لها في السنوات العشر الأخيرة ، و أن جميع المشروعات لم تجد دعما أو تمويلا لها . وكان من الممكن أن يمر دون عتاب بين الشركاء لولا أن الأعذار التي قدمت لعدم تنفيذ المشروعات .. لم تجسد قيم الشراكة الحقة .. حيث تعلل الطرف الأوروبي بتداعيات الأزمة المالية العالمية , وبأنهم شغلوا بضم أعضاء جدد للاتحاد الأوروبي ..!!
ورغم السلبيات التي علقت بمسيرة الشراكــــــــــة بين القارتين والفضاءين إلا أن هناك من الأسباب والدوافع ما يجعل القمة الثالثة التي تنعقد اليوم في طرابلس .. تشكل دفعة قوية للتعاون بين الاتحادين الإفريقي ,والأوروبي , وتمثل نقلة نوعية في اتجاه تعزيز العمل المشترك فيما بينهما :ـ
اولا: تكفلت تجربة القمتين السابقتين بتقديم كل دروسها المستفادة حول شراكة دقيقة وحساسة من هذا النوع ..بحيث يمكن القول أن مبادئ الشراكة وقيمها وغاياتها وبرامجها .. كلها أصبحت واضحة لطرفيها تمام الوضوح .
ثانيا :أحساس أوروبي متزايد بأن أولويات الولايات المتحدة الأمريكية تبتعد حثيثا عن أوروبا في ظروف لم تنقشع فيها بعد تداعيات الأزمة المالية العالمية ، وبأن نفوذها التقليدي في إفريقيا يتآكل بصورة حثيثة نتيجة للحركة النشطة للصين والهند واليابان في الأسواق الإفريقية. والهواجس الأمنية المتزايدة التي تعتبر إفريقيا مصدرا لها.
ثالثا : إحساس إفريقي متزايد بأهمية الاستثمارات الأوروبية في ظروف انخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة على إفريقيا بنسبة 20 % في عام 2009 ، وتراجع عديد الدول عن تمويل الأهداف الإنمائية للألفية المقرر إنجازها قبل عام 2015 .
رابعا: حسن التنظيم والإستعداد للقمة ..ويذكر هنا أن المؤتمر ينعقد مجموعة ضخمة من المؤتمرات والاجتماعات والمشاورات التي تمهد .. وأذكر هنا القمة الخاطفة بين اوباما وقادة الاتحاد الأوروبي ، واجتماعات وزراء الخارجية ، وقادة الأعمال ، ورؤساء البرلمانات الأوروبية والإفريقية . ومؤتمر الشباب الإفريقي الأوروبي الثاني ، ومؤتمر المعلومات ، ومؤتمر التعليم الأكاديمي في جنوب إفريقيا ، وإطلاق منح نيريرى الدراسية بالمناسبة ...وكلها تهيئ للقمة الثالثة فرص النجاح
الموضوع الأساسي للقمة الثالثة .. هو" الاستثمار و النمو الاقتصادي وفرص العمل " .. ويتصدر ثماني قضايا أخرى ترتبط وتتقاطع معه ، لتجمع كل هموم الشراكة الاستراتيجية ..إنها قضايا السلم والأمن ـ والحوكمة والديمقراطية وحقوق الإنسان ـ والتجارة والتكامل الإقليمى ـ والهجرة والتنقل والعمل ـ والأهداف الإنمائية للألفية ـ و تغير المناخ ـ والطاقة ـ والبحث العلمي والفضاء والعلوم والتقانة .
يصدر المؤتمر في نهاية مناقشاته وثيقتين عالميتين الأولـــــى.. " إعلان طرابلس " ويحدد المبادئ التي تحكم الشراكة الاستراتيجية ، والقيم الموجهة لها ، والأهداف المشتركة التي تسعى إلى تحقيقها . و الثانية " برنامج العمل 2011 / 2013 " .. وتتضمن عرضا لخطة الشراكة فى المجالات التسعة السابقة .
ولأنني من المتفائلين بمستقبل الشراكة الأوربية الإفريقية .. فإنني أتوقع أن تكون وثائقه تجسيدا لإرادة القارتين في إنجاز نموذج يحتذى لعمل مشترك بين ثقافات مختلفة وأنظمة اجتماعية متباينة . توقع أن يؤكد "إعلان طرابلس " على أن الشراكة الحقة تقوم بين متساوين ، وعلى مصالح مشتركة بين طرفيها ، وعلى احترام الهويات والأولويات الوطنية ، وعلى دعم الجهود التنموية للطرف الأقل نموا ، وعلى حرية أطرافها في اختيار نظامهم السياسي والاجتماعى ، وعلى عدم المساس بثقافتهم وأديانهم . توقع كذلك أن يؤكد " برنامج عمل 2011 / 2013 " على المبادئ والأفكار التالية :ـ
معالجة قضايا السلم والأمن فى إطار التنمية الشاملة ، ودعم قيام منظومة إفريقية لمنع النزاعات ، ومواجهتها ، وإزالة آثارها. الإعتراف بالخصوصيات الإفريقية فى مجال الديمقراطية وبتنوع طرق المشاركة الشعبية فى إدارة حياتها التركيز على البعد التنموي للهجرة ، واعتماد الشراكة كحل تاريخي للبطالة ، وتسهيل الحركة القانونية للأفراد في مواجهة الهجرة غير الشرعية .
التركيز على الأهداف الإنمائية للألفية المتعلقة بالغذاء والصحة والتعليم ، وتأمين الموارد اللازمة لتحقيقها .
- إدماج الموضوعات المتعلقة بالمناخ ضمن الاسترتيجية التنموية ، وتغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك بالتصادق مع البيئة .
- تيسير وصول الطاقة للمواطنين الأفارقة ، ودعم مشروعات الطاقة المتجددة .
- العمل على ردم الفجوة التقانية والرقمية ، وتطوير مجتمع المعلومات , والتعاون في مجال تطبيقات الفضاء .
- دعم محاولات التكامل الإفريقي ، وتشجيع تطوير البنى التحتية فيها ، وتسهيل إجراءات التجارة ، وتعزيز معاييرالجودة وأساليب الرقابة عليها . ويبقى في النهاية أن نؤكد أن الإعلانات والبرامج لا تبنى وحدها شراكات استراتيجية ثابتة ومستقرة ومستمرة .. مالم تتعزز بالإرادة .. إن النجاح في تحقيق هذه الشراكة ينسب بالتأكيد لإفريقيا ولأوروبا .. أما الفشل فإن أوروبا وحدها تتحمل مسؤوليته .وليس في هذا تحاملا على الأوربيين .. ولكنها الحقائق الموضوعية التي تحكم هذه العلاقة.. وعلى أوروبا أن تتعلم كيف تتذكر هذه الحقائق :
على أوروبا أن تتذكر أن واقع إفريقيا اليوم بفقرها وأمراضها وديونها وتخلفها وتمزقها وصراعاتها هو ناتج فعل أوروبا بالأمس ..وأن الأفارقة لفترات طويلة كانوا الطرف الأضعف فى هذه العلاقة .. وكانوا ضحاياها .. ودفعوا مقدما جميع فواتيرها.. وليس لديهم ما يقدمونه لهذه العلاقة إلا النوايا الحسنة والصدق مع النفس ومع الغير.
عليها أن تتذكر أن الشراكات الاستراتيجية لا يجب أن تطلب استمراراً لغايات الاستعمار القديم بوسائل أخرى .. وأن هذه الشراكات لا تتعايش مع الاستمرار في تفتيت شعوب القارة وفقاً لمستعمريها السابقين / بين فرانكفونيين وأنجلوفونيين/ !!
عليها أن تتذكر أن شراكة الأنداد المتساويين تعنى تقاسم الرؤية حول المستقبل المشترك .. وأن لايسمح للفجوة بينهم الشركاء أن تتخطى حدود ماهو مقبول اجتماعياً وإنسانياً . عليها أن تتذكر أن الأفارقة ليسوا مستعدين لأن يبذلوا جلودهم أو ثقافاتهم، وأن على من يشاركهم أن يتقبل الخلاف ، وأن يقبل بالتعدد الثقافي ، والحوار بين الثقافات عليها ان تتذكر ذلك ..لأن الشرط الأول لنجاح شراكتنا .. والذى يسبق غيره من الشروط ..هو أن تتعلم أوروبا كيف تتذكر الماضي ونتعلم نحن الأفارقة كيف ننساه ..ّ! حينئذ تكون شراكة الأنداد حقا وصدقا .. وحينئذ لا تكون كل جهودنا مجرد مغامرة محفوفة بالمخاطر للرقص مع الذئاب !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق